سورة المرسلات - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المرسلات)


        


قوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنها الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، رواه أبو العُبَيْدَينِ، عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال أبو هريرة، ومقاتل. وقال الفراء: هي الملائكة.
فأما قوله تعالى: {عُرْفاً} فيقال: أُرْسِلتْ بالمعروف، ويقال: تَتَابَعَتْ كعُرْفِ الفَرَسِ. والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عُرْفاً واحداً: إِذا توجهوا إليه فأكثروا. قال ابن قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسَل به. وأصله من عُرْف الفَرَسِ، لأنه سطر مستوٍ بعضه في إِثر بعض، فاستعير للقوم يتبع بعضُهم بعضاً.
والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، وهذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج.
والرابع: الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة. قال: ومعنى {عُرْفاً}: يتبع بعضها بعضاً. يقال: جاؤوني عُرْفاً. وفي {العاصفات} قولان:
أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور.
والثاني: الملائكة، قاله مسلم بن صبيح. قال الزجاج: تعصف بروح الكافر. وفي {الناشرات} خمسة أقوال.
أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور.
والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح.
والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك.
والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع.
والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي.
وفي {الفارقات} أربعة أقوال.
أحدها: الملائكة تأتي بما يفرِّق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون.
والثاني: آي القرآن فَرَّقَتْ بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان.
والثالث: الريح تفرّق بين السحاب فتبدِّدُه، قاله مجاهد.
والرابع: الرسل، حكاه الزجاج.
{فالملقيات ذكراً} قولان:
أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور.
والثاني: الرسل يلقون ما أُنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب.
قوله تعالى: {عُذْراً أو نُذْراً} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم {عُذْراً} خفيفاً {أو نُذُراً} مثقلاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف {عُذْراً أو نُذْراً} خفيفتان. قال الفراء: وهو مصدر، مثقَّلاً كان أو مخفّفاً. ونصبه على معنى: أُرسلتُ بما أرسلتُ به إِعذاراً من الله وإنذاراً. وقال الزجاج: المعنى: فالملقياتِ عُذراً أو نُذراً. ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار. وهذه المذكورات مجرورات بالقسم. وجواب القسم {إنَّما تُوعَدُون لواقع} قال المفسرون: إنَّ ما توعَدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لَواقِعٌ، أي: لكائن. ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: {فإذا النجوم طُمست} أي: مُحِيَ نُورُها {وإذا السماءُ فُرِجَتْ} أي: شُقَّتْ {وإذا الجبال نُسِفَتْ} قال الزجاج: أي: ذُهِبَ بها كلُّها بسرعة. يقال: انتسفتُ الشيء: إذا أخذتَه بسرعة.
قوله تعالى: {وإذا الرسل أُقِّتَتْ} قرأ أبو عمر {وُقِّتَتْ} بواو مع تشديد القاف. ووافقه أبو جعفر، إلا أنه خَفَّفَ القاف. وقرأ الباقون: {أُقِّتت} بألف مكان الواو مع تشديد القاف. قال الزجاج: وُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ بمعنى واحد. فمن قرأ {أُقِّتت} بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو. وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة. وقال الفراء: الواو إذا كانت أول حرف، وضُمَّتْ، همزت. تقول: صلى القوم أُحداناً. وهذه أُجوهٌ حسان. ومعنى {أُقِّتت}: جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة. وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة.
قوله تعالى: {لأي يوم أُجِّلَتْ} أي: أُخِّرَتْ. وضَرْبُ الأجل لجمعهم، يعجِّب العباد من هول ذلك اليوم، ثم بَيَّنه فقال تعالى: {ليوم الفصل} وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق. ثم عَظَّم ذلك اليوم بقوله: {وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين} بالبعث. ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذِّبة، فقال: {ألم نُهْلِكِ الأوَّلين} يعني بالعذاب في الدنيا حين كذَّبوا رسلهم {ثم نُتْبِعُهم الآخِرين} والقراء على رفع العين في {نتبعُهم}، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين. قال الفراء: {نتبعهم} مرفوعة. ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود {وسنتبعهم الآخرين}. ولو جزمتَ على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجهاً جيداً، وقال الزجاج: الجزم عطف على {نُهْلكْ}، ويكون المعنى: لمن أُهلك أولاً وآخراً. والرفع على معنى: ثم نتبِع الأول الآخر من كل مجرم. وقال مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني: كفار مكة حين كذَّبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جرير: الأوَّلون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومَدْيَن.
قوله تعالى: {كذلك} أي: مثل ذلك {نفعل بالمجرمين} يعني: المكذِّبين.
فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله تعالى {ويل يومئذ للمكذبين}؟
فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئاً قال: {ويل يومئذ للمكذبين} بهذا.
قوله تعالى: {ألم نخلقكم} قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف. وقرأ الباقون بإدغامها.
قوله تعالى {من ماءٍ مهينٍ} أي: ضعيف {فجعلناه في قرارٍ مكين} يعني: الرحم {إلى قََدرٍ معلومٍ} وهو مدة الحمل {فَقَدَرْنا} قرأ أهل المدينة، والكسائي {فَقَدَّرْنَا} بالتشديد. وقرأ الباقون: بالتخفيف. وهل بينهما فرق؟
فيه قولان:
أحدهما: أنهما لغتنان بمعنى واحد. قال الفراء: تقول العرب: قَدَر عليه، وقَدَّر عليه. وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشددة لقال: فنعم المقدِّرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع العرب بين اللغتين كقوله تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: 17] قال الشاعر:
وَأَنْكَرَتْني وَمَا كانَ الَّذي نَكِرَتْ *** مِنَ الحَوادِثِ إِلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا
يقول: ما أنكرت إلا ما يكون في الناس.
والثاني: أن المخفَّفة من القُدْرَة والملك، والمشدَّدة من التقدير والقضاء. ثم بيَّن لهم صنعه ليعتبروا فيوحِّدوه، فقال تعالى: {ألم نجعل الأرض كِفَاتاً} قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم. والمعنى: أنها تضم أهلها أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. قال ابن قتيبة: يقال: اكفتْ هذا إليك، أي: ضمه. وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضم الموتى.
وفي قوله تعالى {أحياءً وأمواتاً} قولان:
أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياءً وأمواتاً، قاله الجمهور. قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفاتَ أحياءٍ وأمواتٍ، فإذا نَوَّنْتَ نصبتَ كما يقرأ {أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيماً} [البلد: 14]. وقال الأخفش انتصب على الحال.
والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياءً بالنبات والعمارة، وأمواتاً بالخراب واليبس، هذا قول، مجاهد، وأبي عبيدة.
قوله تعالى {وجعلنا فيها رواسي} قد سبق بيانه {شامخات} أي: عاليات: {وأسقيناكم} قد سبق معنى {أسقينا}، [الحجر: 22: والجن: 16] ومعنى {الفرات} [الفرقان: 53، وفاطر: 12] والمعنى: أن هذه الأشياء أعجب من البعث. ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: {إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذِّبون} في الدنيا، وهو النار، {انطلقوا إلى ظلٍّ} قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي. قال ابن قتيبة و{الظل} هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدُّخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إِلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يُؤْمَرُ بكل فريق إلى مستقرِّه من الجنة والنار {لا ظليل} أي: لا يظلكم من حرِّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس. قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإِنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به. وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضَّريع، والزَّقوم، والغِسْلين. فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار.
قوله تعالى: {ولا يغني من اللَّهَب} أي: لا يدفع عنكم لَهَبَ جهنم. ثم وصف النار فقال تعالى: {إنها تَرْمي بِشَرَرٍ}، وهو جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متفرقاً {كالقَصْر} قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنيَّة. وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وهو قول الجمهور. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء، {كالقَصَر} بفتح الصاد. وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل فنرفعه للشتاء، فنسميه: القصر. قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أُصول النخل المقطوعة المقلوعة. قال الزجاج: أراد أعناق الإبل. وقرأ سعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وابن يعمر {كالقَصِر} بفتح القاف، وكسر الصاد.
وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي، {كالقُصُر} برفع القاف والصاد جميعاً. وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير {كالقِصَر} بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نُهيك، ومعاذ القارئ، {كالقُصْر} بضم القاف وإسكان الصاد.
قوله تعالى: {كأنه جِمَالاَتٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم {جِمالاَتٌ} بألف. وكسر الجيم. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {جِمَالَةُ} على التوحيد. وقرأ رويس عن يعقوب {جُمَالاَت} بضم الجيم. وقرأ أبو رزين، وحميد، وأبو حيوة، {جُمَالة} برفع الجيم على التوحيد. قال الزجاج: من قرأ {جِمالات} بالكسر، فهو جمع جِمَال، كما تقول: بُيوت، وبُيوتَات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات. ومن قرأ {جُمالات} بالضم، فهو جمع {جمالة} ومن قرأ {جِمالةً} فهو جمع جَمَل وجِمالة، كما قيل: حَجر، وحِجَارة، وذَكَر، وذِكَارَة، وقرئت {جُمالة} على ما فسرناه في جُمالات بالضم. و{الصُّفْر} هاهنا: السود. يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إِبل صُفْرٌ. وقال الفراء: الصُّفْر: سود الإبل لا يُرى الأسود من الإبل إلا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، فلذلك سَمَّتْ العرب سود الإبل: صُفْراً، كما سَمَّوا الظباء: أدماً لما يعلوها من الظلمة في بياضها.
قوله تعالى: {هذا يومُ لا ينطقون} قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة: تكلَّموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلَّمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون بحجة تَنْفَعُهم. وقرأ أبو رجاء، والقاسم ابن محمد والأعمش، وابن أبي عبلة {هذا يومَ لا ينطقون} بنصب الميم.
قوله تعالى: {هذا يوم الفصل} أي: بين أهل الجنة وأهل النار {جمعناكم} يعني: مكذِّبي هذه الأمة و{الأوَّلين} من المكذِّبين الذين كذَّبوا أنبياءَهم {فإن كان لكم كيد فكيدونِ} أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب، أي: إن قَدَرْتُم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم. ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال تعالى: {إن المتَّقين في ظِلال} يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور {وعيون} الماء، وهذا قد تقدَّم بيانه، إلى قوله تعالى {كلوا} أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله. ثم قال لكفار مكة: {كلوا وتمتعوا قليلاً} في الدنيا إِلى منتهى آجالكم {إِنكم مجرمون} أي: مشركون بالله.
قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا} فيه قولان:
أحدهما: أنه حين يُدْعَون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي صلوا {لا يركعون} أي: لا يصلُّون. وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح. وقيل نزلت: في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مَسَبَّةٌ علينا، فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع.
قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} أي: إن لم يصدِّقوا بهذا القرآن، فبأيِّ كتاب بعده يصدِّقون، ولا كتاب بعده:!